شهد مخيم اليرموك بعض المعارك الشديدة والحصار من النظام السوري والآن يشاهدون الأحداث العنيفة في غزة. الفلسطينيون يجدون أنفسهم وسط الصراع في سوريا والصراع في غزة
لا، لا يذكر الفلسطيني السوري غزة كثيراً، ربما ستدعوا لها النساء قليلاً حين يصلينّ، وربما سيتنهد الرجال حين يحالون الهرب من البكاء العلني، لكن في العمق هناك ما هو أكثر أولوية الآن. مخجلٌ هذا، لكن ماذا ستفعل ضحية لضحية؟ وماذا سيعطي مشروع جثة لمشروع جثة؟ التعاطف والتضامن لا يليقان ولا يفيان بالغرض هنا، فنحن أكثر شعب ملّ منهما ومن تكرارهما. لكن أبو أحمد الرفاعي الفلسطيني السبعيني الذي غادر مخيم اليرموك بجنوب العاصمة بعد أن اشتد الحصار عليه، يذكر غزة يومياً ويتابع أخبارها وأخبار هبوط الصواريخ فيها، فهبة مع أولادها هناك. هبة ابنة أبو أحمد الصغرى، قرر زوجها اللجوء إلى الوطن فغادر سوريا باتجاه غزة مع أبنائه الأربعة، هو موظف في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتمكن من نقل عمله من دمشق إلى غزة في كانون الأول من عام 2013. في الشجاعية أم في بيت لاهيا؟ لا يعلم السبعيني أين تقيم ابنته تماماً، يراقب الرجل التلفاز باحثاً عن خبر لا يذكر اسم هبة أو أسماء أطفالها، الرجل الذي عاش كل حروب الفلسطيني، يتصل برقم هاتفها كل برهة لعلها تجيب، لكن محطة التوليد الكهربائية الوحيدة هناك ضربت وما عاد من تيار أو شبكات، يشرح لي وهو يشعل سيجارة أخرى،.
كيف لنا أن نذكر غزة؟ كيف لعمتي التي لم يعرف منزلها الكهرباء منذ عام أن تعرف بأخبار غزة؟ عمتي أم رامي التي عرضت سيارة زوجها الذي خرج من مخيم اليرموك بجنوب دمشق ولم يعد إليه بسبب الحصار للبيع. صنعت السيارة عام 98، وكان زوج عمتي قد حولها لتكسي، ولكن يبدو أن السعر الذي حددته عمتي كان مرتفعاً، إذ طلبت كيلو من الرز ثمناً لها، فلم تجد زبوناً يفاوضها على الرغم من أنها كانت تنوي أن تخفض السعر إلى نصف كيلو من الرز إذا طلب منها أي زبون الجلوس إلى مائدة التفاوض التي ستضعها في الشارع، لكن لم يُثر العرض شهية أحد. في معادلة أخرى كانت العمة ستوافق على بيع السيارة التي يصل سعرها خارج حدود المخيم إلى حوالي 800 ألف ليرة سورية مقابل 4000 آلاف ليرة سورية، هو ثمن الكيلو الواحد من الرز في مخيم اليرموك المحاصر منذ عام وبضعة أيام. في النهاية، بقيت السيارة أمام المنزل وبقي أولاد العمة جياع ليوم آخر، وبقي خبر غزة عصياً عليهم.
انشغلنا عن غزة؟ ربما… لكننا نعرف تماماً الآن ما الذي يعيشه الغزاويون، نحن نقارن يومياً بيننا نحن لاجئي 48 وبينهم، نقارن جثثنا بجثثهم، نسأل من مات أكثر؟ من شوهت جثته أكثر؟ من عاشر القذيفة أكثر؟ هم دفنوا بعضهم في الحدائق ونحن فعلنا، هم ناموا جياعاً ونحن قتلنا الجوع، هم لديهم معبر رفح الذي بات كباب الجنة إذ فُتح، ونحن لدينا معبر “البطيخة” في أول اليرموك الذي علقوا لنا الخبز فيه وتركوا قناصاً يحرس الرغيف من أفواهنا، عاشوا الحصار؟؟! عرفناه واختبرناه وقتلنا حيناً وقتلناه حيناً آخر، أنجبنا مثلهم من عدد الأطفال وربما أكثر في ظل الحصار، فازددنا وما نقصنا إلا قليلا، وازدادوا وما نقصوا إلا قليلا…
حين تسمع كفلسطيني سوري أن حي الشجاعية في غزة قد مُحي من الوجود، ستذكر مخيم النيرب في حلب، الذي أزالته بعض الكتائب المسلحة التي حسبت على المعارضة، فشرد الفلسطيني السوري من النيرب باتجاه أرض الله التي لم تعد واسعة أمامه. ربما ستفهم ما حدث في النيرب، لكنك لن تفهم ما يقوله المذيع والضيف في الإعلام الرسمي السوري وشبه الرسمي، ستكره غزة حين تسمع من هؤلاء أنهم يقفون معها، ينقلون خبر حصار غزة وكأنهم لا يحاصرون مخيم اليرموك الذي لا يبعد عن مبنى التلفزيون كثيراً. يبكي التلفزيون على أطفال غزة، يدين الحرب عليها، وينقل صور الطائرات التي تقصفها، بينما قد تغير طائرة ميغ سورية من جديد وفي أي لحظة على الفلسطيني في اليرموك أو في قدسيا فتقتل عشرين طفلاً جديداً.
ما لن تفهمه أبداً كيف يصدر أحمد جبريل ،الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بياناً يقول فيه إن قواته نفذت عملية عسكرية في غزة!! أليست “قواتك” مشغولة في حصار اليرموك، ألست تحاصر الرغيف؟ ألم تعطل ألف مرة ومرة دخول الطعام إلينا هناك؟ .
حين كانت المظاهرات لا تزال في إطار الممكن في سوريا، نعم تظاهر بعضنا وهتف مع السوريين للحرية والكرامة، ركضنا من الأمن واعتقلنا وعذبنا، لم نشعر يوماً بأننا غير سوريين. في ذات الوقت صدق البعض منا المؤامرة وخرجنا في مسيرات تحيي السلطة وجيشها، ولم نشعر يوماً بأننا لسنا سوريين. وحين قررت السلطة في سوريا أن تفتح لنا الجولان في يوم الأرض وذكرى النكبة، ركضنا نحو غزة وحيفا ونابلس، هرولنا نحو طبريا والقدس وبيت لحم، اجتزنا الحدود وسقط منا 7 شهداء، في اليوم التالي كنا نشيعهم في اليرموك، حين كان الاحتفال بالموت لا يزال ممكنا هنا، حينها قتل منا مقاتلو جبريل 10 وجرحوا العشرات، هم ذاتهم مقاتلوه الذي يدعي أنهم يحررون غزة، دفناهم وعدنا نحلم بفلسطين.
كنا نتظاهر من أجل غزة والضفة في اليرموك، في يوم القدس ويوم النكبة ويوم النكسة، نشعل الإطارات ونرفع صوتنا بعبارات ثورية، نرفع صور عرفات حتى في الأيام التي كانت فيه السلطة السورية تعتبره خائناً وتلاحق أتباعه، نشتم السلطة الفلسطينية بعد عرفات ونحيي حماس وحركات المقاومة الأخرى ونهتف ضد اتفاق اوسلو، نحلم بالعودة ونرسمها على جدران اليرموك ونوقع “عائدون” لم نكن نعلم أن رسوماتنا على جدران المخيم ستمحى وتستبدل بعبارات ثورة أخرى ورغبة أخرى، لم نكن نعلم أن جدران المخيم ستتلوى معنا أو علينا فتموت أو تقتلنا أو نموت معاً، ولم نكن ندري أن “عائدون” ستصبح وعداً نقدمه لأنفسنا لا لكي نعود لفلسطين بل لكي نعود لمخيم بات حلماً لآلاف منا